نسبه:
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب _ واسمه شيبة _ بن هاشم _ واسمه عمرو_ بن عبد مناف _ واسمه المغيرة _ بن قصي _ واسمه زيد_ بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر _ وهو الملقب بقريش وإليه تنتسب القبيلة _ بن مالك بن النضر _ واسمه قيس _ بن كنانة بن خزيمة بن مدركة _ واسمه عامر_ بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .
الأسرة النبوية:
تعرف أسرته بالأسرة الهاشمية _ نسبة إلى جدة هاشم بن عبد مناف _ وإذن فلنذكر شيئاً من أحوال هاشم ومن بعده .
1- هاشم _ هو الذي تولى السقاية والرفادة من بني عبد مناف حين تصالح بنو عبد مناف وبنو عبد الدار على اقتسام المناصب فيما بينهما ، وهاشم كان اسمه موسراً ذا شرف كبير ، وهو أول من أطعم الثريد للحجاج بمكة ، وكان اسمه عمرو فما سمي هاشماً إلا لهشمة الخبز، وهو أول من سن الرحلتين لقريش ، رحلة الشتاء والصيف ، وفيه يقول الشاعر:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه قوم بـمكة مسنتين عجـاف
سنت إليه الرحـلتان كـلاهما سفر الشتاء ورحلة الأصياف
ومن حديثه أنه خرج إلى الشام تاجراً ، فلما قدم المدينة تزوج سلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار وأقام عندها ، ثم خرج إلى الشام _ وهي عند أهلها قد حملت بعبد المطلب_ فمات هاشم بغزة من أرض فلسطين ، وولدت امرأته سلمى عبد المطلب سنة 497م ، وسمته شيبة لشيبة كانت في رأسة وجعلت تربيه في بيت أبيها في يثرب ، ولم يشعر به أحد من أسرته بمكة وكان لهاشم أربعة بنين وهم : أسد، وأبو صيفي، ونضلة، وعبد المطلب. وخمس بنات وهي : الشفاء، وخالدة، وضعيفة، ورقية ، وجنة.
2- عبد المطلب _ قد علمنا مما سبق أن السقاية والرفادة بعد هاشم صارت إلى أخيه المطلب بن عبد مناف ( وكان شريفاً مطاعاً ذا فضل في قومه ، كانت قريش تسميه الفياض لسخائه ) ولما صار شيبة _ عبد المطلب _ وصيفاً أو فوق ذلك سمع به المطلب فرحل في طلبه ، فلما رآه فاضت عيناه ، وضمه ، وأردفه على راحلته ، فامتنع حتى تأذن له أمه ، فسألها المطلب أن ترسله معه ، فامتنعت فقال : إنما يمضي ألى ملك أبية ، وإلى حرم الله ،17- فأذنت له ،18- فقدم به مكه مردفه على بعيره فقال الناس : هذا عبد المطلب ،19- فقال ويحكم إنما هو ابن أخي هاشم .. فأقام عنده حتى ترعرع ،20- ثم إن المطلب هلك بردمان من أرض اليمن ،21- فولي بعد عبد المطلب ،22- فأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون لقومهم ،23- وشرف في قومه شرفاً لم يبلغه أحد من آبائه وأحبه قومه ،24- وعظم خطره فيهم .
ولما مات المطلب وثب نوفل على أركاح عبد المطلب فغصبه إياها فسأل رجالاً من قريش النصرة على عمه، فقالوا لا ندخل بينك وبين عمك . فكتب إلى أخواله من بني النجار أبياتاً يستنجدهم ، وسار خاله أبو سعد بن عدي في ثمانين راكباً حتى نزل بالأبطح من مكة ، فتلقاه عبد المطلب ، فقال : المنزل يا خال !
فقال : لا والله حتى ألقى نوفلا ، ثم أقبل فوقف نوفل ، وهو جالس في الحجر مع مشايخ قريش ، فسل أبو سعد سيفه وقال : ورب البيت لئن لم ترد على ابن أختي ت أركاحه لأمكنن منك هذا السيف ، فقال : رددتها عليه ، فأشهد عليه مشايخ قريش ، ثم نزل عبد المطلب ، فأقام عنده ثلاثاً ، ثم اعتمر ورجع إلى المدينة ، فلما جرى ذلك حالف نوفل بني عبد شمس بن عبد مناف على بني هاشم ، ولما رأت خزاعة نصر بني النجار لعبد المطلب قالوا : نحن ولدناه كما ولدتموه ، فنحن أحق بنصره _ وذلك أن أم عبد مناف منهم _ فدخلوا دار الندوة ، وحالفوا بني هاشم على بني عبد شمس ونوفل ، وهذا الحلف الذي صار سبباً لفتح مكة كما سيأتي .
ومن أهم ما وقع لعبد المطلب من أمور البيت شيئان : حفر بئر زمزم ووقعة الفيل ، وخلاصة الأول أنه أمر في المنام بحفر زمزم ووصف له موضعها ، فقام يحفر ، فوجد فيه الأشياء التي دفنها الجراهمة حين لجأوا إلى الجلاء ، أي السيوف والدروع والغزالين من الذهب ، فضرب الأسياف باباً للكعبة ، وضرب في الباب الغزالين وأقام سقاية زمزم للحجاج .
ولما بدت بئر زمزم نازعت قريش عبد المطلب ، وقالوا له : أشركنا قال ما أنا بفاعل هذا أمر خصصت به ، فلم يتركوه حتى خرجوا به للمحاكمة إلى كاهنة بني سعد ولم يرجعوا حتى أراهم الله في الطريق ما دلهم على تخصيص عبد المطلب بزمزم ، وحينئذ نذر عبد المطلب لئن آتاه الله عشرة أبناء ، وبلغوا أن يمنعوه لينحرن أحدهم عند الكعبة .
وخلاصة الثاني أن أبرهة الصباح الحبشي ، النائب العام عن النجاشي على اليمن لما رأى العرب يحجون الكعبة بني كنيسة كبيرة بصنعاء وأراد أن يصرف حج العرب إليها وسمع بذلك رجل من بني كنانة فدخلها ليلاً فلطخ قبلتها بالعذرة ولما علم أبرهة بذلك ثار غيظة وسار بجيش عرمرم عدده ستون ألف جندي _ إلى الكعبة ليهدمها واختار لنفسه فيلاً من أكبر الفيلة وكان الجيـــش ( 9 فيلة أو 13 فيلاً ) وواصل سيره حتى بلغ المغمس وهناك عبأ جيشه وهيأ فيله وتهيأ لدخول مكة فلما كان في وادي محسر بين المزدلفة ومنى برك الفيل ولم يقم ليقدم إلى الكعبة وكانوا كلما وجهوه الى الجنوب أو الشمال أو الشرق يقول يهرول ، وإذا صرفوه إلى الكعبة برك فبينا هم كذلك إذ أرسل الله عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5) وكانت الطير أمثال الخطاطيف والبلسان ، مع كل طائر ثلاثة أحجار ، حجر في منقارة ، وحجران في رجليه أمثال الحمص ، لا تصيب منهم أحداً إلا صار تتقطع أعضاؤه وهلك ، وليس كلهم أصابت ، وخرجوا هاربين يموج بعضهم في بعض فتساقطوا بكل بطريق وهلكوا على كل منهل وأما أبرهة فبعث الله عليه داء تساقطت بسببه أنامله ولم يصل إلى صنعاء إلا وهو مثل الفرخ وانصدع صدره عن قلبه ثم هلك .
وأما قريش فكانوا قد تفرقوا في الشعاب وتحرزوا في رؤوس الجبال خوفاً على أنفسهم من معرة الجيش فلما نزل بالجيش ما نزل رجعوا إلى بيوتهم آمنين ،وكانت هذه الوقعة في شهر المحرم قبل مولد النبي بخمسين يوماً أو بخمسة وخمسي يوماً _ عند الأكثر _ وهو يطابق أواخر فبراير أو أوائل مارس سنة 571م وكانت تقدمة قدمها الله لنبية وبيته ، لأنا حين ننظر إلى بيت المقدس نرى أن المشركين من أعداء الله تسلطوا على هذه القبلة ، وأهلها مسلمون كما وقع لبختنصر سنة 587ق.م والرومان سنة 70م ، ولكن الكعبة لم يسيطر عليها النصارى _ وهم مسلمون إذ ذاك _ مع أن أهلها كانوا مشركين .
وقد وقعت هذه الوقعة في الظروف التي يبلغ نبأها إلى معظم المعمورة المتحضرة إذ ذاك ، فالحبشة كانت لها صلة بالرومان ، والفرس لا يزالون لهم بالمرصاد ، يترقبون ما نزل بالرومان وحلفائهم ، ولذلك سرعان ما جاءت الفرس إلى اليمن بعد هذه الوقعة ، وهاتان الدولتان كانتا تمثلان العالم المتحضر .فهذه الوقعة لفتت أنظار العالم ودلته على شرف بيت الله ، وأنه هو الذي اصطفاه الله للتقديس ، فإذن لو قام أحد من أهله بدعوى النبوة كان ذلك هو عين ما تقتضيه هذه الوقعة وكان تفسيراً للحكمة الخفية التي كانت في نصرة الله المشركين ضد أهل الإيمان بطريق يفوق عالم الأسباب . وكان لعبد المطلب عشرة بنين وهم : الحارث والزبير وأبو طالب ، وعبد الله ، وحمزة ، وأبو لهب ، والغيداق ، والمقوم ، وصفار، والعباس ، وقيل : كانوا أحد عشر فزادوا ولداً اسمه قثم ، وقيل كانوا ثلاثة عشر، فزادوا عبد الكعبة وحجلا ، وقيل إن عبد الكعبة هو المقوم ، وحجلا هو الغيداق ولم يكن من أولاده رجله اسمه قثم ، وأما البنات فست وهن :أم الحكيم _ وهي البيضاء _ وبرة وعاتكة وصفية وأروى وأميمة .
3- عبد الله والد النبي _ أمه فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران ابن مخزوم بن يقظة بن مرة ، وكان عبد الله أحسن أولاد عبد المطلب وأعفهم وأحبهم إليه وهو الذبيح ، وذلك أن عبد المطلب تم أبناؤه عشرة ، وعرف أنهم يمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه ، فكتب أسماءهم في القداح ، وأعطاهم قيم هبل ، فضرب القداح فخرج القدح على عبد الله ، فأخذه عبد المطلب ، وأخذ الشفرة ، ثم أقبل به إلى الكعبة ليذبحة ، فمنعته قريش ولاسيما أخواله من بني مخزوم وأخوه أبو طالب ، فقال عبد المطلب : فكيف أصنع بنذري فأشاروا عليه أن يأتي عرافة فيستأمرها ، فأتاها ، فأمرت أن يضرب القداح على عبد الله وعلى عشر من الإبل ، فإن خرجت على عبد الله يزيد عشراً من الإبل حتى يرضي ربه فإن خرجت على الإبل نحرها ، فرجع وأقرع بين عبد الله وبين عشر من الإبل فوقعت القرعة على عبد الله فلم يزل يزيد من الإبل عشراً عشراً ولا تقع القرعة إلا عليه إلى أن بلغت الإبل مائة فوقعت القرعة عليها ، فنحرت عنه ، ثم تركها عبد المطلب لايرد عنها انساناً ولا سبعاً وكانت الدية في قريش وفي العرب عشراً من الإبل فجرت بعد هذه الوقعة مائة من الإبل وأقرها الإسلام وروي عن النبي أنه قال أنا ابن الذبيحين يعني إسماعيل وأباه عبد الله .
وأختار عبد المطلب لولده عبد الله آمنه بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب وهي يومئذ تعد أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً ، وأبوها سيد بني زهرة نسباً وشرفاً ، فبنى بها عبد الله في مكة ، وبعد قليل أرسله عبد المطلب إلى المدينة يمتار لهم تمراً فمات بها ، وقيل : بل خرج تاجراً غلى الشام ، فأقبل في عير قريش ، فنزل بالمدينة وهو مريض فتوفي بها ، ودفن في دار النابغة الجعدي ، وله إذ ذاك خمس وعشرون سنه وكانت وفاته قبل أن يولد وبه يقول أكثر المؤرخين ، وقيل : بل توفي بعد مولده بشهرين .. ولما بلغ نعيه إلى مكة رثته آمنه بأروع المراثي ، قالت :
عفا جانب البطحاء من ابن هاشم
وجـاور لـحداً خارجاً في الغماغم
دعته المـنايا دعـوة فأجـابهـا وماتركت في الناس مثل ابن هاشم
عشيـة راحـوا يحـملون سريره تعاوزه أصحابه في التزاحــــم
فإن تك غالتـه المنـايا وريبـها فقد كـان معطاء كثير التـراحـم
وجميع ما خلفه عبد الله خمسة أجمال ، وقطعة غنم وجارية حبشية اسمها بركة وكنيتها أم أيمن ، وهي حاضنة رسول الله.
المولد النبوي:
ولد سيد المرسلين بشعب بني هاشم بمكة في صبيحة يوم الاثنين التاسع من شهر ربيع الأول ، لأول عام من حادثة الفيل ، ولأربعين سنة خلت من ملك كسرى أنوشروان ويوافق ذلك العشرين أو الثاني وعشرين من شهر أبريل سنة 571 حسبما حققه العالم الكبير محمد سليمان المنصور فوري والمحقق الفلكي محمود باشا .
وروى ابن سعد أن أم رسول الله قالت: لما ولدته خرج من فرجي نور أضاءت له قصور الشام .
وروى أحمد عن العرباض بن سارية ما يقارب ذلك .
وقد روي أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد ، فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى، وخمدت النار التي يعبدها المجوس ، وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت ، روي ذلك البيهقي ولا يقره محمد الغزالي .
ولما ولدته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب تبشره بحفيده ، فجاء مستبشراً ودخل به الكعبة ، ودعا الله وشكر له ، واختار له اسم محمد _ وهذا الاسم لم يكن معروفاً في العرب _ وختنه يوم سابعه كما كان العرب يفعلون ، وأول من أرضعته من المراضع _ بعد أمه _ ثويبة مولاة أبي لهب بلبن ابن لها يقال له مسروح ، وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب ، وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي .
في بنى سعد:
كانت العادة عند العرب أن يلتمسوا المراضع لأولادهم ابتعاداً لهم عن أمراض الحواضر ، لتقوى أجسامهم وتشتد أعصابهم ، ويتقنوا اللسان العربي في مهدهم ، فالتمس عبد المطلب لرسول الله الرضعاء ، واسترضع له امرأة من (بني سعد) ابن بكر_ وهي حليمة بنت أبي ذؤيب _ وزوجها الحارث بن عبد العزى المكنى بأبي كبشة من نفس القبيلة وأخوته هناك من الرضاعة عبد الله بن الحارث ، وأنيسة بنت الحارث ، وحذافة أو جذامة بنت الحارث ( وهي الشماء _ لقب غلب على اسمها ) وكانت تحضن رسول الله وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، ابن عم الرسول .
وكان عمه حمزة بن عبد المطلب مسترضعاً في بني سعد بن بكر فأرضعت أمه رسول الله يوماً وهو عند أمه حليمة ، فكان حمزة رضيع رسول الله من وجهين من وجهة ثويبة ومن جهة السعدية .
ورأت حليمة من بركته ما قصت منه العجب ، ولنتركها تروي ذلك مفصلاً : قال ابن إسحاق : كانت حليمة تحدث : أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها صغير ترضعه ، في نسوة من بني سعد بن بكر تلتمس الرضعاء قالت : وذلك في سنة شهباء لم تبق لنا شئياً قالت : فخرجت على أتان لي قمراء معنا شارف لنا والله ما تبض بقطرة وما ننام ليلنا أجمع صبينا الذي معنا ، من بكائه من الجوع ما في ثديي ما يغنيه وما في شارفنا ما يغذيه ولكن كنا نرجو الغيث والفرج ، فخرجت على أتاني تلك فلقد أدمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفاً وعجفاً حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم وذلك أنا كنا نرجو المعروف من ابي الصبي فكنا نقول : يتيم! وما عسى أن تصنع أمه وجده ! فكنا نكرهه لذلك فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعاً غيري فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي : والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعاً والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه قال : لا عليك أن تفعلي عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة . قالت : فذهبت إليه فأخذته ، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره، قالت : فلما أخذته رجعت به إلى رحلي فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتى روي ، وشرب معه أخوه حتى روي ثم نام ، وما كنا ننام معه قبل ذلك ، وقام زوجي إلى شارفنا تلك فإذا هي حافل ، فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا رياً وشبعاً ، فبتنا بخير ليلة ،قالت : يقول صاحبي حين أصبحنا : تعلمي والله يا حليمة ! لقد أخذت نسمة مباركة ، قالت : فقلت : والله إني لأرجو ذلك ، قالت : ثم خرجنا وركبت أنا أتاني ، وحملته عليها معي ، فو الله لقطعت بالركب ما لا يقدر عليه شئ من حمرهم ، حتى إن صواحبي ليقلن لي : يا ابنة أبي ذؤيب ، ويحك ! أربعي علينا ، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها ؟ فأقول لهن : بلى والله ! إنها لهي هي ، فيقلن : والله إن لها شأناً ، قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد وما أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها ، فكانت غنمي تروح على حين قدمنا به معنا شباعاً لبناً ، فنحلب ونشرب ، وما يحلب إنسان قطرة لبن ، ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم : ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب ، فتروح أغنامهم جياعاً ما تبض بقطـــرة لبن، وتروح غنمي شباعاً لبناً، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته وكان يشب شباباً لا يشبه الغلمان ، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاماً جفراً ، قالت : فقدمنا به على أمه ونحن أحرص على مكثه فينا ، لما كنا نرى من بركته ، فكلمنا أمه ، وقلت لها : لو تركت ابني عندي حتى يغلظ ، فإني أخشى عليه وباء مكة ، قالت : فلم نزل بها حتى ردته معنا .
وهكذا بقي رسول الله في بني سعد حتى إذا كانت السنة الرابعة أو الخامسة من مولده وقع حادث شق صدره ، روى مسلم عن أنس أن رسول الله أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان ، فأخذه فصرعه ، فشق عن قلبه ، فاستخرج القلب ، فا ستخرج منه علقة ، فقال : هذا حظ الشيطان منك ، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ، ثم لأمه ، ثم أعاده إلى مكانه وجاء الغلمان يسعون إلى أمه _ يعني ظئره _ فقالوا : إن محمداً قد قتل ، فا ستقبلوه وهو منتقع اللون .
إلى أمه الحنون:
خشيت عليه حليمة بعد هذه الوقعة حتى ردته إلى أمه ، فكان عند أمه إلى أن بلغ ست سنين .
ورأت آمنه وفاء لذكرى زوجها الراحل أن تزور قبره بيثرب فخرجت من مكة قاطعة رحلة تبلغ خمسمائة كيلومتراً ومعها ولدها اليتيم _ محمد وخادمتها أم أيمن وقيمها عبد المطلب ، فمكث شهراً، ثم قفلت ، وبينما هي راجعة إذ يلاحقها المرض ويلح عليها في أوائل الطريق ، فماتت بالأبواء بين مكة والمدينة .
إلى جدة العطوف:
وعاد به عبد المطلب إلى مكة ، وكانت مشاعر الحنو في فؤاده تربو نحو حفيده اليتيم الذي أصيب بمصاب جديد نكأ الجروح القديمة ، فرق عليه رقة لم يرقها على أحد من أولاده فكان لا يدعه لوحدته المفروضة ، بل يؤثر على أولاده ، قال ابن هشام : كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة ، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه ، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالاً له ، فكان رسول الله يأتي وهو غلام جفر حتى يجلس عليه ، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه ، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم : دعوا ابني هذا فو الله إن له لشأناً ، ثم يجلس معه على فراشه ، ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع .
ولثماني سنوات وشهرين وعشرة أيام من عمره توفي جده عبد المطلب بمكة ورأى قبل وفاته أن يعهد بكفالة حفيدة إلى عمه أبي طالب شقيق أبيه .
إلى عمه الشفيق:
ونهض أبو طالب بحق ابن أخيه على أكمل وجه ، وضمه إلى ولده ، وقدمه عليهم واختصه بفضل احترام وتقدير ، وظل فوق أربعين سنة يعز جانبه ويبسط عليه حمايته ويصادق ويخاصم من أجله ، وستأتي نبذ من ذلك في مواضعها.
يستسقي الغمام بوجهه:
خرج ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة قال : قدمت مكة وهم في قحط فقالت قريش : يا أبا طالب ! أقحط الوادي ، وأجدب العيال ، فلهم فاستسق ، فخرج أبو طالب ومعه غلام ، كأنه شمس دجن ، تجلت عنه سحابة قثماء ، حوله أغيلمة ، فأخذه أبو طالب ، فألصق ظهره بالكعبة ،ولاذ بإصبعه الغلام ، وما في السماء قزعة ، فأقبل السحاب من ههنا وههنا وأغدودق وأنفجر الوادي وأخضب النادي والبادي وإلى هذا أشار أبو طالب حين قال :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
بحيرا الراهب:
ولما بلغ رسول الله اثنتي عشرة سنة _ قيل وشهرين وعشرة أيام _ أرتحل به أبو طالب تاجراً إلى الشام ، حتى وصل إلى بصرى _ وهي معدودة من الشام وقصبة لحوران وكانت في ذلك الوقت قصبة للبلاد العربية التي كانت تحت حكم الرومان وكان في هذا البلد راهب عرف ببحيراً واسمه جرجيس فلما نزل الركب خرج إليهم وأكرمهم بالضيافة وكان لا يخرج إليهم قبل ذلك وعرف رسول الله بصفته فقال وهو آخذ بيده : هذا سيد العالمين ، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين : فقال أبو طالب : ما علمك بذلك ؟ فقال : إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا وخر ساجداً ، ولا تسجد إلا لنبي وإني أعرفه بخاتم النبوة في أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة ، وإنا نجده في كتبنا ، وسأل أبا طالب أن يرده ولا يقدم به إلى الشام خوفاً عليه من اليهود فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة .
حرب الفجار:
ولخمس عشرة من عمره كانت حرب الفجار بين قريش ومن معهم من كنانة وبين قيس عيلان ، وكان قائد قريش وكنانة كلها حرب بن أمية لمكانته فيهم سناً وشرفاً وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة ، حتى إذا كان في وسط النهار كان الظفر لكنانة على قيس .
وسميت بحرب الفجار لانتهاك حرمات الحرم والأشهر الحرم فيها وقد حضر هذه الحرب رسول الله وكان ينبل على عمومته أي يجهز لهم النبل للرمي .
حرب الفضول:
ولخمس عشرة من عمره كانت حرب الفجار بين قريش ومن معهم من كنانة وبين قيس عيلان ، وكان قائد قريش وكنانة كلها حرب بن أمية لمكانته فيهم سناً وشرفاً وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة ، حتى إذا كان في وسط النهار كان الظفر لكنانة على قيس .
وسميت بحرب الفجار لانتهاك حرمات الحرم والأشهر الحرم فيها وقد حضر هذه الحرب رسول الله وكان ينبل على عمومته أي يجهز لهم النبل للرمي .
حياة الكدح:
ولم يكن له عمل معين في أول شبابه إلا أن الروايات توالت أنه كان يرعى غنماً رعاها في بني سعد وفي مكة لأهلها على قراريط وفي الخامسة والعشرين من سنه خرج تاجراً إلى الشام في مال خديجة رضي الله عنها .
قال ابن إسحاق : كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشئ تجعله لهم وكانت قريش قوماً تجاراً فلما بلغها عن رسول الله ما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجراً وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار ، مع غلام لها يقال له ميسرة فقبله رسول الله منها وخرج في مالها ذلك وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام .
زواجه بخديجة : ولما رجع إلى مكة ورأت خديجة في مالها من الأمانة والبركة ما لم تر قبل هذا وأخبرها غلامها ميسرة بما رأى فيه من خلال عذبة ، وشمائل كريمة وفكر راجح ومنطق صادق ونهج أمين .
وجدت ضالتها المنشودة _ وكان السادات والرؤساء يحرصون على زواجها فتأبى عليهم ذلك _ فتحدثت بما في نفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منية وهذه ذهبت إليه تفاتحة أن يتزوج خديجة ، فرضي بذلك ، وكلم أعمامه فذهبوا إلى عم خديجة وخطبوها إليه وعلى إثر ذلك تم الزواج وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر ، وذلك بعد رجوعه من الشام بشهرين وأصدقها عشرين بكرة وكانت سنها إذ ذاك أربعين سنة ، وكانت يؤمئذ أفضل نساء قومها نسباً وثروة وعقلاً وهي أول امرأة تزوجها رسول الله ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت .
وكل أولاده منها سوى إبراهيم ولدت له أولاً القاسم _ وبه كان يكنى _ ثم زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة وعبد الله وكان عبد الله يلقب بالطيب والطاهر ومات بنوه كلهم في صغرهم ، أما البنات فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن ، إلا أنهن أدركتهن الوفاة في حياته ، سوى فاطمة رضي الله عنها فقد تأخرت بعده ستة أشهر ثم لحقت به .
يتبع